إيران بعد ثلاث سنوات من قمع الاحتجاجات.. هل أصبح الإفلات من العقاب قاعدة؟

إيران بعد ثلاث سنوات من قمع الاحتجاجات.. هل أصبح الإفلات من العقاب قاعدة؟
احتجاجات "المرأة، الحياة، الحرية" في إيران

 

تحل الذكرى الثالثة لاحتجاجات "المرأة، الحياة، الحرية" في إيران، فيما لا تزال جراح الضحايا وعائلاتهم مفتوحة، ويظل غياب المساءلة عنوان المرحلة، فبعد ثلاث سنوات على وفاة الشابة مهسا جينا أميني في سبتمبر 2022، وما أعقبها من مظاهرات واسعة واجهتها السلطات الإيرانية بقمع دموي، لم تُفتح أي تحقيقات نزيهة أو مستقلة في الانتهاكات الجسيمة التي وثقتها منظمات دولية، بل على العكس، استمرت السلطات في تمجيد الأجهزة الأمنية وملاحقة عائلات القتلى والناجين، وفق "هيومن رايتس ووتش".

من حادثة مهسا إلى احتجاجات عابرة للحدود

مثّلت وفاة أميني أثناء احتجازها لدى "شرطة الأخلاق" لحظة فارقة فجّرت احتجاجات غير مسبوقة بقيادة النساء والشباب، سرعان ما اتسعت لتشمل مطالب سياسية واجتماعية، لتصبح أكبر تحدٍ للنظام الإيراني منذ احتجاجات الحركة الخضراء عام 2009، ووفق تقارير الأمم المتحدة، قُتل المئات خلال الأشهر الأولى من القمع، بينهم عشرات الأطفال، فيما اعتُقل عشرات الآلاف.

تقارير دولية توثق الانتهاكات

في مارس 2024، خلص تقرير بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة إلى أن السلطات الإيرانية ارتكبت انتهاكات جسيمة ترقى إلى "جرائم ضد الإنسانية"، شملت القتل غير المشروع، والتعذيب، والاغتصاب، أما التقرير الثاني للبعثة في مارس 2025 فأكد أن السلطات واصلت ارتكاب أعمال اضطهاد ممنهجة بحق النساء والفتيات وأفراد الأقليات، إضافة إلى التنكيل بالضحايا وأسرهم.

من جانبها، وثقت منظمة العفو الدولية إعدامات تعسفية لأكثر من 12 شخصًا على خلفية مشاركتهم في الاحتجاجات، بينهم مجاهد كوركوري ومهران بهراميان، بعد محاكمات وصفت بأنها جائرة تفتقر لأدنى معايير العدالة.

الإفلات من العقاب سياسة ممنهجة 

الإفلات من العقاب في إيران ليس وليد اللحظة، فتاريخيًا لم تُفتح أي تحقيقات جدية في انتهاكات الثمانينيات، ولا في أحداث احتجاجات 2009 أو 2019، وتحوّل النظام القضائي، الخاضع لهيمنة السلطة التنفيذية والدينية، إلى أداة لتبرير العنف بدل محاسبته. وبدلاً من مساءلة قوات الأمن، غالبًا ما جرى تكريمها باعتبارها "حامية للنظام".

هذا النمط يعكس ما وصفته هيومن رايتس ووتش بـ"الدائرة المغلقة للإنكار والحماية"، حيث يقف الجناة فوق القانون بينما يُعاقب الضحايا على مطالبتهم بالعدالة.

آثار إنسانية ممتدة.. من الداخل إلى الشتات

تسببت سياسة القمع والإفلات من العقاب في مآسٍ إنسانية عابرة للحدود، فكثير من الناجيات اللاتي تعرضن لإصابات خطيرة اضطررن لمغادرة البلاد هربًا من الاعتقال أو التعذيب، وبعضهن عالقات في دول مجاورة بلا حماية كافية أو رعاية طبية مناسبة، فيما تكافح أخريات في أوروبا للتعافي من آثار جسدية ونفسية عميقة.

في شهادات مؤثرة، قالت نساء إيرانيات وفقا لـ"هيومن رايتس ووتش" إنهن رغم المخاطر سيواصلن المطالبة بحقوقهن، وأكد شاب أصيب بطلقات معدنية أنه "إذا بدأت الاحتجاجات غدًا، فسأعود إلى الشوارع"، في إشارة إلى صمود إرادة التغيير رغم الألم.

النساء في قلب الاستهداف

احتجاجات "المرأة، الحياة، الحرية" حملت رمزيتها من تحدي قوانين الحجاب الإلزامي، وهو ما دفع السلطات إلى تشديد القوانين التمييزية، وفق بعثة تقصي الحقائق الأممية، اتخذت الحكومة إجراءات قمعية واسعة: اعتقالات جماعية، ومحاكمات جائرة، وحرمان من التعليم والعمل، وحجز المركبات، فضلًا عن استخدام تقنيات المراقبة لملاحقة النساء غير الملتزمات، وهذه السياسات لم تقتصر على الداخل، إذ طالت عائلات الناشطات في الخارج عبر الاستجواب والمداهمات.

القانون الدولي.. واجب المحاسبة

بموجب القانون الدولي، تتحمل إيران المسؤولية الأساسية عن التحقيق في الانتهاكات ومقاضاة مرتكبيها، وضمان تعويض الضحايا، لكن مع انعدام الإرادة الداخلية تزايدت الدعوات إلى استخدام آليات الولاية القضائية العالمية، ودعت هيومن رايتس ووتش الدول القادرة على ذلك إلى فتح تحقيقات جنائية في الجرائم المرتكبة منذ 2022، باعتبارها جرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.

الأمم المتحدة من جهتها أنشأت آلية لتوثيق الجرائم وحفظ الأدلة، في خطوة تهدف لتمكين المحاكم الدولية أو الوطنية مستقبلًا من ملاحقة المسؤولين.

ردود فعل المجتمع الدولي

رغم الإدانات المتكررة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا، ظلت إجراءات المساءلة محدودة حيث فرضت بعض الدول عقوبات فردية على مسؤولين إيرانيين، لكن منظمات حقوقية اعتبرت ذلك غير كافٍ، فالعقوبات، وإن كانت رمزية، لا توفر العدالة للضحايا ولا تضع حدًا للإفلات من العقاب.

بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق شددت في تقريرها الأخير على ضرورة الانتقال من الإدانات السياسية إلى خطوات عملية، مثل دعم المحاكمات خارج إيران وتوفير الحماية للشهود والضحايا.

على المستوى المحلي، يتعرض أهالي الضحايا لحملة ترهيب ممنهجة، وقد وثقت تقارير حقوقية مضايقات واعتقالات لأسر القتلى والمعدومين، ومنعهم من إقامة مراسم عزاء عامة، كما واجه محامون مستقلون محاكمات جائرة بسبب دفاعهم عن المعتقلين، هذا المناخ يكرس ثقافة الخوف، ويجعل من المطالبة بالعدالة فعلًا محفوفًا بالمخاطر.

تراكم الإفلات من العقاب

منذ الثورة الإسلامية عام 1979، ارتكب النظام الحاكم في إيران انتهاكات واسعة لم يُحاسب عليها أحد، أبرز الأمثلة إعدامات الثمانينيات الجماعية، وقمع الحركة الطلابية عام 1999، وقمع احتجاجات الحركة الخضراء عام 2009، واحتجاجات الوقود في 2019 التي قُتل فيها مئات خلال أيام، وخلق هذا التاريخ الطويل بيئة يتكرر فيها العنف دون محاسبة، ما جعل الاحتجاجات الأخيرة امتدادًا لتاريخ من القمع الممنهج.

العدالة كشرط لبناء مستقبل

بعد ثلاث سنوات على احتجاجات "المرأة، الحياة، الحرية"، يتضح أن غياب المحاسبة ليس عَرَضًا بل سياسة ممنهجة، ومع استمرار الإعدامات والقمع، تظل مسألة العدالة مؤجلة، بينما يعيش الضحايا وعائلاتهم في انتظار إنصاف قد لا يأتي من الداخل. 

المسؤولية باتت تقع على المجتمع الدولي لتفعيل آليات المحاسبة، ليس فقط من أجل الضحايا، بل لضمان ألّا تتكرر الدائرة ذاتها في كل انتفاضة جديدة.

الإفلات من العقاب في إيران لم يعد مجرد شأن داخلي، بل قضية حقوقية وإنسانية تتعلق بمصداقية القانون الدولي وقدرته على حماية الأفراد من عنف الدولة، فإما أن يُترجم التضامن إلى خطوات ملموسة، وإما أن تبقى شعارات العدالة والحرية كلمات يتردد صداها في شوارع طهران بلا أثر فعلي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية